ومن أمعن النظر في هذه الأمور وكانت له معرفة حسنة بعلم البيان تبيّنت له حِكَمٌ متعدّدة في غالب الأمر، بل ربّما ظهر له من الدلائل ما غفل عن ذكره كثيرون، كما فعل ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه "مدارج السالكين" في جوابه على هذا السؤال؛ فقد أحسن بيان جملة من الحكم والأسرار البديعة التي لا تكاد تجدها في كتب التفسير بمثل تنبيهه وبيانه، وقد استفاد أصلها من شيخه ابن تيمية لكنَّه بنى على هذا الأصل من التفصيل والتفريع ما أجاد فيه وأفاد | ومادام الإنسان يقر بعبوديته لله وحده، فهو يقر بجاهه وسلطانه ومطلق قدرته، وأنه وحده أهل للاستعانة، فيعينه بداية على عبادته على الذي يرضيه، ثم يستعين به على سائر أموره الحياتية، قال تعالى: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ |
---|---|
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين، فنصف له سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، ونصف لعبده وهو: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين " | وكل عمل لا يعين الله العبد عليه فإنه لا يكون ولا ينفع فما لا يكون به لا يكون وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم فلذلك أمر العبد أن يقول : { إياك نعبد وإياك نستعين } |
وتقدمت العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص، واهتماماً بتقديم حقه - تعالى- على حق عبده، وفي التقاء ضمير المخاطب وهو الله سبحانه، وضمير المتكلم وهم المؤمنين، تلتقي حقوق الربوبية بواجبات العبودية في عبارة بمنتهى الإيجاز والبيان.
فالعبادة هى كل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة | وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ : الْعِبَادَةُ إِمَّا لِتَحْصِيلِ ثَوَابٍ وَرَدِّ عِقَابٍ ؛ قَالُوا : وَهَذَا لَيْسَ بِطَائِلٍ إِذْ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ ، وَإِمَّا لِلتَّشْرِيفِ بِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا - أَيْضًا - عِنْدَهُمْ ضَعِيفٌ ، بَلِ الْعَالِي أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكَمَالِ ، قَالُوا : وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُصَلِّي : أُصَلِّي لِلَّهِ ، وَلَوْ كَانَ لِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَدَرْءِ الْعَذَابِ لَبَطُلَتْ صَلَاتُهُ |
---|---|
وحذف متعلّق الاستعانة هنا يفيد عمومَ ما يُستعان بالله عليه؛ ليشملَ كلَّ ما يحتاج العبد فيه إلى عون ربّه لجلب نفع أو دفع ضرّ في دينه ودنياه أو دوام نعمة قائمة، أو دوام حفظ من شرّ، فكلّ ذلك مما لا يناله العبد إلا بعون ربّه جلّ وعلا | إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام، والمراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم، ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه فكأن العبد إذا قال : إياك أعبد لكان ذلك تكبراً منه ، ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله |
أَو الجَماعَةُ من كُلِّ الشَّجرِ حَتَّى منِ النَّخْلِ وخَصَّ بعضهُم به مَنْبتَ الأثْلِ ومُجْتَمَعَه وقالَ أَبو حَنِيفَةَ : الأيْكُ : الجَماعةُ الكثيرة من الأَراكِ تَجْتَمع في مكانٍ واحدٍ الواحِدَةُ أَيْكَة وقد خالَفَ هنا اصْطِلاحَه فتَأَمَّلْ قال أَبو ذُؤَيْب : مُوَشَّحَة بالطُّرَّتَيْنِ دَنا لَها.
20أما موضع الآية فليس موضع تأكيد، يعني ليس هناك شك في أن الله سبحانه وتعالى يعلّم المؤمنين أن يقصروا الاستعانة عليه سبحانه، فما ليس فيها شك لا تستعمل فيه الباء بك نستعين ، فجاءت إياك نستعين ؛ لأنه لو جاءت إياك نعبد وبك نستعين، فكأنه يريد أن يزيل شكاً بهذا التأكيد، ولو استعملها لأراد أن هناك شكا في الاستعانة بالله، والشك هنا غير وارد، ففي قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده كان هناك شك، وإلا قال: أليس الله كافياً عبده، فلما أكد المعنى أراد أن يزيل شكاً في نفوس المتلقين، وهذه لغة العرب | وقد ذكرنا ضابط اللحن الجلي في الفتوى: |
---|---|
فالاستعانة بمعناها العام تشمل الدعاء والتوكل والاستعاذة والاستغاثة والاستهداء والاستنصار والاستكفاء وغيرها؛ لأن كل ما يقوم به العبد من قول أو عمل يرجو به تحصيلَ منفعة أو دفع مفسدة فهو استعانة | العبادة في اللغة من الذلة ، يقال : طريق معبد ، وبعير معبد ، أي : مذلل ، وفي الشرع : عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف |