البشري بطحاء قريش. الصادق الأمين .. خاتم المرسلين .. منقذ العالمين

ذلك أن الرِّيبة كان في الإمكان أن تدخل صدور الناس، إذا ما رأوا النبي - عليه الصلاة والسلام - متعلِّمًا مطلعًا على الكتب القديمة، وتاريخ الأمم البائدة، وحضارات الدول المجاورة، كذلك يخشى من دخول هذه الريبة إذا ما ظهرت الدعوة الإسلامية بين أُمة لها شأن في الحضارة والمدنية، والفلسفة والتاريخ؛ كدولة الفرس، أو اليونان، أو الرومان، إذ رُبَّ مرتاب مُبطل، يزعم أن الدعوة حصاد سلسلة من التجارب الحضارية والأفكار الفلسفية التي تطوَّرت وانتهت إلى مثل هذه الحضارة الفذَّة، وهذا التشريع الكامل منقذ العالمين لم يكن تراب الجاهلية مستسلمًا لمخدر الضياع كل الاستسلام، راضيًا كل الرضا عن هذا الهمود المنحرف الذي يسود الحياة في الجزيرة العربية، التي تمثِّل " أخلاق الفطرة" أبرز ملامحها، مع كثير من صور الانحراف بالفطرة، وصولاً بها إلى مستوى البداوة والأخلاق الطبيعية الخشِنة
فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم " وفي وسط هذا الضياع والترقب من كثيرٍ من النابهين، وفي بطحاء مكة؛ حيث البقعة الوسط من العالم، وحيث المركز والقلب منه، نشأ محمد - عليه الصلاة والسلام - أفضل ما تكون النشأة والمولد؛ استجابة من الله لحاجة إنسانية مُلِحة تنقذ قطار البشرية الآيل للخروج عن قضبانه الإنسانية

الصادق الأمين .. خاتم المرسلين .. منقذ العالمين

والقرآن نزل منجَّمًا مُقَسَّطًا عبر ثلاثة وعشرين عامًا، وهو بهذا التنجيم الذي يعالج الحياة في دورة من دوراتها تبلغ ثلاثة وعشرين عامًا، كافية لتحقيق القدوة والأسوة لموكب التاريخ البشري كله في سائر أطواره وتقلُّباته.

21
مدارس حضانة
وبعد أن تلقَّى الرسولُ الوحي، دعا أصحابه المقربين إلى الإسلام - في مرحلة الدعوة السرية إلى الإسلام - وكان أكثر مَن استجابوا له، إنما استجابوا بسبب ثِقتهم في صدقه وخُلقه! لقد ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعالم كله يتخبَّط في دياجير الظلام، ينتظر المنقذ، وكانت كل الإرهاصات تومئ بوضوح إلى أن نبيًّا سيظهر قد حان مولده
مدارس حضانة
والقرآن - بحد ذاته - هو الدليل الأكبر على صدق نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - والقرآن مع أنه يحمل دليل ألوهيَّته وربانيَّته معه، فإنه يحمل معه دليل نبوَّة الموحى إليه به
مدارس حضانة
ما حجرٌ نظيف به لا يسمع ولا يُبصر، ولا يضر ولا ينفع! ولا يَلبث محمد - الذي أشهَد الناس على أداء الأمانة - أن يذهب إلى ربِّه، دون أن يأخذ من هذه الدنيا لنفسه أيَّ حظٍّ، فكأنه إنما جاء للأمانة، وللأمانة وحدها، ذلك الصادق الأمين
قالوا: أجَل، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيدالله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل إلخ"، فهو - أي: الدين - في تصوُّرهم ليس أكثر من قيمة من قِيَم التراث الذي ورِثوه عن الآباء والأجداد، وهو غير مؤثر في الحياة الاجتماعية والفكرية لهم إلا في هذه الحدود
فقد ألِف الناس - على امتداد التاريخ وتقلُّب المجتمعات والمقاييس - أن يروا كثيرًا من الناس يكافحون في صدر حياتهم؛ كي يصلوا إلى مركز مرموق، أو مستوى راقٍ من الحياة الاقتصادية والاجتماعية، أو السياسية، أو الفكرية، فإذا ما صلوا إلى ما أرادوا، تبدَّلت حياتهم، حتى وإن حافظوا على بعض سجاياهم الخُلقية، فالمجتمع لا ينكر عليهم ذلك، بل يعتبره حقًّا طبيعيًّا، وثمنًا عاديًّا لرحلة الكفاح كما تصوِّر لنا هذه القَصص مدى القلق والتيه النفسي والفكري، الذي كان يُهيمن على العقلاء في أرجاء الجزيرة؛ إن ابن هشام يحدثنا عن ابن إسحاق في ذكر عيد من أعياد قريش، وما كان من أمر بعض الحائرين، فيقول: "واجتمعت قريش يومًا في عيدٍ لهم عند صنمٍ من أصنامهم، كانوا يعظمونه، ويَخِرُّون له، ويعكفون عنده، ويديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، فخلَص منهم أربعة نفر نجيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا، وليَكتُم بعضكم على بعض! ويواصل ابن إسحاق تتبُّعه للمسيرة الفكرية لهؤلاء، وما وصلوا إليه في رحلة بحثهم عن الحقيقة: " فأما ورقة بن نوفل، فاستحكَم في النصرانية"، وكان من أمره في بداية الإسلام - مع رسول الله عليه الصلاة والسلام - ما يعتبره البعض دخولاً في الإسلام

الصادق الأمين .. خاتم المرسلين .. منقذ العالمين

ومع هذا التنجيم عبر هذا المدى الزمني المتطاول، تتجلى المعجزة أيضًا في تلك الوحدة التشريعية والتاريخية والفنية التي يمتاز بها القرآن الكريم، بحيث يبدو وكأنه نسَقٌ واحد يرتفع فوق تموُّجات الزمن، بل كأنَّ عهده بالوجود أمس كما قال أحد المستشرقين! فعلامَ إذًا كان يقطع - عليه الصلاة والسلام - رحلة الحياة الحافلة بالصور المعروفة من الجهاد المتواصل؟! ولم يكن لدى الفرس أو الروم دينٌ صحيح شامل، عالمي قوي مؤثر، لقد كان الدين بالنسبة إليهما جزءًا من ملامح الشخصية الحضارية، وعنصرًا واحدًا من عناصر القومية، ولم يكن في ظلِّ انحدارهما وانحرافهما حضارة كاملة تحدِّد هي التعامل مع الأشياء، وتُضفي على القِيَم لونها الخاص.

10
مدارس حضانة
وخادمه الخاص أنس الذي كان آخر الصحابة موتًا، والذي مات سنة 84هـ ؛ أي: إنه عاش بعد الرسول أكثر من سبعين سنة، فهل غير أنس هذا رأيه في الرسول طوال هذه الفترة؟ أم أنه كان يبكي إذا ذكر اسم الرسول أمامه؟، ولـه فيه شهادات لم توجد إطلاقًا من خادم لمخدومه! وهو من جهة أبية محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، ويُدعى شيبة الحمد بن هاشم بن عبدمناف
الصادق الأمين .. خاتم المرسلين .. منقذ العالمين
وتؤكد لنا قصص الحنفاء والباحثين عن دينٍ حق، تلك التي برزت في غير واقعة من وقائع جاهلية الجزيرة العربية الأولى، تؤكد لنا هذه القصص - في مضمونها الأخير - حالة عدم الرضا، الذي كان يَقبَع خلف تراب الجزيرة الذي كان يبدو هادئًا
الصادق الأمين .. خاتم المرسلين .. منقذ العالمين
وهذا التنجيم بتلك الفائدة التي حقَّقها للتاريخ البشري، يمثِّل إعجازًا في حد ذاته، " فلو أن القرآن كان قد نزل جملة واحدة، لتحوَّل سريعًا إلى كلمة مقدسة خامدة، وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدرًا يبعث الحياة في حضارة وليدة، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية، لا سرَّ لها إلا في هذا التنجيم"